فصل: تفسير الآيات (81-82):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن (نسخة منقحة)



.تفسير الآية رقم (80):

{وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ وَيَأْتِينَا فَرْدًا (80)}:
وَقَوْلُهُ: {وَيَأْتِينَا فَرْدًا} أَيْ: مُنْفَرِدًا لَا مَالَ لَهُ وَلَا وَلَدَ وَلَا خَدَمَ وَلَا غَيْرَ ذَلِكَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ} الْآيَةَ [6/ 94]، وَقَالَ تَعَالَى: {وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا} [19/ 95] كَمَا تَقَدَّمَ إِيضَاحُهُ.
فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ عَبَّرَ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ بِحَرْفِ التَّنْفِيسِ الدَّالِّ عَلَى الِاسْتِقْبَالِ فِي قَوْلِهِ: سَنَكْتُبُ مَا يَقُولُ مَعَ أَنَّ مَا يَقُولُهُ الْكَافِرُ يُكْتَبُ بِلَا تَأْخِيرٍ، بِدَلِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [50/ 18].
فَالْجَوَابُ: أَنَّ الزَّمَخْشَرِيَّ فِي كَشَّافِهِ تَعَرَّضَ لِلْجَوَابِ عَنْ هَذَا السُّؤَالِ بِمَا نَصُّهُ:
قُلْتُ: فِيهِ وَجْهَانِ، أَحَدُهُمَا: سَنُظْهِرُ لَهُ وَنُعْلِمُهُ أَنَا كَتَبْنَا قَوْلَهُ، عَلَى طَرِيقَةِ قَوْلِ زَائِدِ بْنِ صَعْصَعَةَ الْفَقْعَسِيِّ:
إِذْ مَا انْتَسَبْنَا لَمْ تَلِدْنِي لَئِيمَةٌ ** وَلَمْ تَجِدِي مِنْ أَنْ تُقِرِّي بِهَا بُدًّا

أَيْ: تَبَيَّنَ وَعُلِمَ بِالِانْتِسَابِ أَنِّي لَسْتُ بِابْنِ لَئِيمَةٍ.
وَالثَّانِي: أَنَّ الْمُتَوَعِّدَ يَقُولُ لِلْجَانِي: سَوْفَ أَنْتَقِمُ مِنْكَ، يَعْنِي أَنَّهُ لَا يُخِلُّ بِالِانْتِصَارِ وَإِنْ تَطَاوَلَ بِهِ الزَّمَانُ وَاسْتَأْخَرَ، فَجَرَّدَهَا هُنَا لِمَعْنَى الْوَعِيدِ. انْتَهَى مِنْهُ بِلَفْظِهِ، إِلَّا أَنَّا زِدْنَا اسْمَ قَائِلِ الْبَيْتِ وَتَكْمِلَتَهُ.
وَمَا ذَكَرَهُ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ مِنْ أَنَّهُ يَكْتُبُ مَا يَقُولُ هَذَا الْكَافِرُ، ذَكَرَ نَحْوَهُ فِي مَوَاضِعَ مُتَعَدِّدَةٍ مِنْ كِتَابِهِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {قُلِ اللَّهُ أَسْرَعُ مَكْرًا إِنَّ رُسُلَنَا يَكْتُبُونَ مَا تَمْكُرُونَ} [10/ 21] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لَا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ} [43/ 80]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {هَذَا كِتَابُنَا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [45/ 29] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ} [43/ 19] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ} [3/ 181]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {كَلَّا بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ كِرَامًا كَاتِبِينَ يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ} [82/ 9- 11] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَاوَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا} [18/ 49]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا} [17/ 13]، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ.

.تفسير الآيات (81-82):

{وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا (81) كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا (82)}:
قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا}.
ذَكَرَ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: أَنَّ الْكُفَّارَ الْمُتَقَدِّمَ ذِكْرُهُمْ فِي قَوْلِهِ: {وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا} [19/ 72]، اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً أَيْ مَعْبُودَاتٍ مِنْ أَصْنَامٍ وَغَيْرِهَا يَعْبُدُونَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ، وَأَنَّهُمْ عَبَدُوهُمْ لِأَجْلِ أَنْ يَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا، أَيْ: أَنْصَارًا وَشُفَعَاءَ يُنْقِذُونَهُمْ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ، كَمَا أَوْضَحَ تَعَالَى مُرَادَهُمْ ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [39/ 3]، فَتَقْرِيبُهُمْ إِيَّاهُمْ إِلَى اللَّهِ زُلْفَى فِي زَعْمِهِمْ هُوَ عِزُّهُمُ الَّذِي أَمَّلُوهُ بِهِمْ، وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى عَنْهُمْ: {وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} الْآيَةَ [10/ 18]، فَالشَّفَاعَةُ عِنْدَ اللَّهِ عِزٌّ لَهُمْ بِهِمْ يَزْعُمُونَهُ كَذِبًا وَافْتِرَاءً عَلَى اللَّهِ، كَمَا بَيَّنَهُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [10/ 18].
وَقَوْلُهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: كَلَّا، زَجْرٌ وَرَدْعٌ لَهُمْ عَنْ ذَلِكَ الظَّنِّ الْفَاسِدِ الْبَاطِلِ، أَيْ: لَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ، لَا تَكُونُ الْمَعْبُودَاتُ الَّتِي عَبَدْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِزًّا لَكُمْ، بَلْ تَكُونُ بِعَكْسِ ذَلِكَ، فَتَكُونُ عَلَيْكُمْ ضِدًّا، أَيْ: أَعْوَانًا عَلَيْكُمْ فِي خُصُومَتِكُمْ وَتَكْذِيبِكُمْ وَالتَّبَرُّؤِ مِنْكُمْ، وَأَقْوَالُ الْعُلَمَاءِ فِي الْآيَةِ تَدُورُ حَوْلَ هَذَا الَّذِي ذَكَرْنَا، كَقَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ: ضِدًّا أَيْ: أَعْوَانًا، وَقَوْلِ الضَّحَّاكِ: ضِدًّا، أَيْ: أَعْدَاءً، وَقَوْلِ قَتَادَةَ: ضِدًّا، أَيْ: قُرَنَاءُ فِي النَّارِ يَلْعَنُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، وَكَقَوْلِ ابْنِ عَطِيَّةَ: ضِدًّا يَجِيئُهُمْ مِنْهُمْ خِلَافُ مَا أَمَّلُوهُ فَيَئُولُ بِهِمْ ذَلِكَ إِلَى الذُّلِّ وَالْهَوَانِ، ضِدِّ مَا أَمَّلُوهُ مِنَ الْعِزِّ.
وَهَذَا الْمَعْنَى الَّذِي ذَكَرَ اللَّهُ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ، بَيَّنَهُ أَيْضًا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ، كَقَوْلِهِ: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لَا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ} [46/ 5- 6]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ إِنْ تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ} [35/ 13- 14]، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ.
وَضَمِيرُ الْفَاعِلِ فِي قَوْلِهِ: سَيَكْفُرُونَ فِيهِ وَجْهَانِ لِلْعُلَمَاءِ، وَكِلَاهُمَا يَشْهَدُ لَهُ قُرْآنٌ، إِلَّا أَنَّ لِأَحَدِهِمَا قَرِينَةً تُرَجِّحُهُ عَلَى الْآخَرِ.
الْأَوَّلُ: أَنَّ وَاوَ الْفَاعِلِ فِي قَوْلِهِ: سَيَكْفُرُونَ، رَاجِعَةٌ إِلَى الْمَعْبُودَاتِ الَّتِي كَانُوا يَعْبُدُونَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ، أَمَّا الْعَاقِلُ مِنْهَا فَلَا إِشْكَالَ فِيهِ، وَأَمَّا غَيْرُ الْعَاقِلِ فَاللَّهُ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ لَهُ إِدْرَاكًا يُخَاطِبُ بِهِ مَنْ عَبَدَهُ وَيَكْفُرُ بِهِ بِعِبَادَتِهِ إِيَّاهُ، وَيَدُلُّ لِهَذَا الْوَجْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى عَنْهُمْ: {تَبَرَّأْنَا إِلَيْكَ مَا كَانُوا إِيَّانَا يَعْبُدُونَ} [28/ 63]، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَإِذَا رَأَى الَّذِينَ أَشْرَكُوا شُرَكَاءَهُمْ قَالُوا رَبَّنَا هَؤُلَاءِ شُرَكَاؤُنَا الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُوا مِنْ دُونِكَ فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ إِنَّكُمْ لَكَاذِبُونَ} [16/ 86]، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَقَالَ شُرَكَاؤُهُمْ مَا كُنْتُمْ إِيَّانَا تَعْبُدُونَ فَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ إِنْ كُنَّا عَنْ عِبَادَتِكُمْ لَغَافِلِينَ} [10/ 28- 29]، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ.
الْوَجْه الثَّانِي: أَنَّ الْعَابِدِينَ هُمُ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ شُرَكَاءَهُمْ وَيُنْكِرُونَهَا وَيَدُلُّ لِهَذَا الْوَجْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} [6/ 23]، وَقَوْلُهُ عَنْهُمْ: {بَلْ لَمْ نَكُنْ نَدْعُو مِنْ قَبْلُ شَيْئًا} الْآيَةَ [40/ 74] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ.
وَالْقَرِينَةُ الْمُرَجِّحَةُ لِلْوَجْهِ الْأَوَّلِ، أَنَّ الضَّمِيرَ فِي قَوْلِهِ: وَيَكُونُونَ، رَاجِعٌ لِلْمَعْبُودَاتِ، وَعَلَيْهِ فَرُجُوعُ الضَّمِيرِ فِي يَكْفُرُونَ لِلْمَعْبُودَاتِ أَظْهَرُ؛ لِانْسِجَامِ الضَّمَائِرِ بَعْضِهَا مَعَ بَعْضٍ.
أَمَّا عَلَى الْقَوْلِ الثَّانِي: فَإِنَّهُ يَكُونُ ضَمِيرُ يَكْفُرُونَ لِلْعَابِدِينَ، وَضَمِيرُ يَكُونُونَ لِلْمَعْبُودِينَ، وَتَفْرِيقُ الضَّمَائِرِ خِلَافُ الظَّاهِرِ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.
وَقَوْلُ مَنْ قَالَ مِنَ الْعُلَمَاءِ: إِنَّ كَلَّا فِي هَذِهِ الْآيَةِ مُتَعَلِّقَةٌ بِمَا بَعْدَهَا لَا بِمَا قَبْلَهَا، وَأَنَّ الْمَعْنَى: كَلَّا سَيَكْفُرُونَ، أَيْ: حَقًّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ- مُحْتَمَلٌ، وَلَكِنَّ الْأَوَّلَ أَظْهَرُ مِنْهُ وَأَرْجَحُ، وَقَائِلُهُ أَكْثَرُ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى، وَفِي قَوْلِهِ: كَلَّا قِرَاءَاتٌ شَاذَّةٌ تَرَكْنَا الْكَلَامَ عَلَيْهَا لِشُذُوذِهَا.
وَقَوْلُهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا، أَفْرَدَ فِيهِ الْعِزَّ مَعَ أَنَّ الْمُرَادَ الْجَمْعُ؛ لِأَنَّ أَصْلَهُ مَصْدَرٌ عَلَى حَدِّ قَوْلِهِ فِي الْخُلَاصَةِ:
وَنَعَتُوا بِمَصْدَرٍ كَثِيرْ فَالْتَزَمُوا الْإِفْرَادَ وَالتَّذْكِيرْ وَالْإِخْبَارُ بِالْمَصْدَرِ يَجْرِي عَلَى حُكْمِ النَّعْتِ بِهِ، وَقَوْلُهُ: ضِدًّا مُفْرَدًا أَيْضًا أُرِيدَ بِهِ الْجَمْعُ، قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: لِأَنَّهُ مَصْدَرٌ فِي الْأَصْلِ، حَكَاهُ عَنْهُ أَبُو حَيَّانَ فِي الْبَحْرِ، وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: الضِّدُّ: الْعَوْنُ، وُحِّدَ تَوْحِيدَ قَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ، «هُمْ يَدٌ عَلَى مَنْ سِوَاهُمْ» لِاتِّفَاقِ كَلِمَتِهِمْ، وَأَنَّهُمْ كَشَيْءٍ وَاحِدٍ لِفَرْطِ تَضَامُنِهِمْ وَتَوَافُقِهِمْ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا}.
قَوْلُهُ: {أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ} الْآيَةَ [19/ 83]، أَيْ: سَلَّطْنَاهُمْ عَلَيْهِمْ وَقَيَّضْنَاهُمْ لَهُمْ، وَهَذَا هُوَ الصَّوَابُ، خِلَافًا لِمَنْ زَعَمَ أَنَّ مَعْنَى أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ الْآيَةَ، أَيْ: خَلَّيْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَهُمْ، وَلَمْ نَعْصِمْهُمْ مِنْ شَرِّهِمْ، يُقَالُ: أَرْسَلْتُ الْبَعِيرَ، أَيْ: خَلَّيْتُهُ.
وَقَوْلُهُ: {تَؤُزُّهُمْ أَزًّا}: الْأَزُّ وَالْهَزُّ وَالِاسْتِفْزَازُ بِمَعْنًى، وَمَعْنَاهَا التَّهْيِيجُ وَشِدَّةُ الْإِزْعَاجِ، فَقَوْلُهُ: تَؤُزُّهُمْ أَزًّا، أَيْ: تُهَيِّجُهُمْ وَتُزْعِجُهُمْ إِلَى الْكُفْرِ وَالْمَعَاصِي.
وَأَقْوَالُ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي الْآيَةِ رَاجِعَةٌ إِلَى مَا ذَكَرْنَا: كَقَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا، أَيْ: تُغْرِيهِمْ إِغْرَاءً، وَكَقَوْلِ مُجَاهِدٍ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا، أَيْ: تُشْلِيهِمْ إِشْلَاءً، وَكَقَوْلِ قَتَادَةَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا أَيْ: تُزْعِجُهُمْ إِزْعَاجًا.
وَمَا ذَكَرَهُ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ مِنْ أَنَّهُ سَلَّطَ الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ، وَقَيَّضَهُمْ لَهُمْ يُضِلُّونَهُمْ عَنِ الْحَقِّ بَيَّنَهُ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ مِنْ كِتَابِهِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَاءَ فَزَيَّنُوا لَهُمْ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ} الْآيَةَ [41/ 25]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ} الْآيَةَ [43/ 36] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا يَامَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ} الْآيَةَ [6/ 128] وَقَوْلِهِ: {وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الْغَيِّ ثُمَّ لَا يُقْصِرُونَ} [7/ 202]، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ.

.تفسير الآية رقم (84):

{فَلَا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا (84)}:
قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَلَا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا}.
قَوْلُهُ: {فَلَا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ} [19/ 84]، أَيْ: لَا تَسْتَعْجِلْ وُقُوعَ الْعَذَابِ بِهِمْ فَإِنَّ اللَّهَ حَدَّدَ لَهُ أَجَلًا مُعَيَّنًا مَعْدُودًا، فَإِذَا انْتَهَى ذَلِكَ الْأَجَلُ جَاءَهُمُ الْعَذَابُ، فَقَوْلُهُ: إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا، أَيْ: نَعُدُّ الْأَعْوَامَ وَالشُّهُورَ وَالْأَيَّامَ الَّتِي دُونَ وَقْتِ هَلَاكِهِمْ، فَإِذَا جَاءَ الْوَقْتُ الْمُحَدَّدُ لِذَلِكَ أَهْلَكْنَاهُمْ، وَالْعَرَبُ تَقُولُ: عَجِلْتُ عَلَيْهِ بِكَذَا: إِذَا اسْتَعْجَلْتُهُ مِنْهُ.
وَمِمَّا ذَكَرَهُ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ مِنْ أَنَّ هَلَاكَ الْكُفَّارِ حُدِّدَ لَهُ أَجْلٌ مَعْدُودٌ ذَكَرَهُ فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ مِنْ كِتَابِهِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى:
{وَلَا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ} [46/ 35] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَوْلَا أَجَلٌ مُسَمًّى لَجَاءَهُمُ الْعَذَابُ} الْآيَةَ [29/ 53] وَقَوْلِهِ: {وَمَا نُؤَخِّرُهُ إِلَّا لِأَجَلٍ مَعْدُودٍ} [11/ 104] وَقَوْلِهِ: {وَلَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِلَى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ لَيَقُولُنَّ مَا يَحْبِسُهُ} [11/ 8] وَقَوْلِهِ: {وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ} [14/ 42] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلًا ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلَى عَذَابٍ غَلِيظٍ} [31/ 24]، وَقَوْلِهِ: {قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ} الْآيَةَ [2/ 126]، وَقَوْلِهِ: {فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا} [86/ 17] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ.
وَرُوِيَ أَنَّ الْمَأْمُونَ قَرَأَ هَذِهِ السُّورَةَ الْكَرِيمَةَ فَمَرَّ بِهَذِهِ الْآيَةِ وَعِنْدَهُ جَمَاعَةٌ مِنَ الْفُقَهَاءِ، فَأَشَارَ إِلَى ابْنِ السَّمَّاكِ أَنْ يَعِظَهُ، فَقَالَ: إِذَا كَانَتِ الْأَنْفَاسُ بِالْعَدَدْ، وَلَمْ يَكُنْ لَهَا مَدَدْ، فَمَا أَسْرَعَ مَا تَنْفَدْ.
وَالْأَظْهَرُ فِي الْآيَةِ هُوَ مَا ذَكَرْنَا مِنْ أَنَّ الْعَدَّ الْمَذْكُورَ عَدُّ الْأَعْوَامِ وَالْأَيَّامِ وَالشُّهُورِ مِنَ الْأَجَلِ الْمُحَدَّدِ.
وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: هُوَ عَدُّ أَنْفَاسِهِمْ، كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ ابْنُ السَّمَّاكِ فِي مَوْعِظَتِهِ لِلْمَأْمُونِ الَّتِي ذَكَرْنَا إِنْ صَحَّ ذَلِكَ، وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ كَانَ إِذَا قَرَأَهَا بَكَى، وَقَالَ: آخِرُ الْعَدَدِ خُرُوجُ نَفْسِكَ، آخِرُ الْعَدَدِ: فِرَاقُ أَهْلِكَ، آخِرُ الْعَدَدِ: دُخُولُ قَبْرِكَ.
وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا أَيْ: نَعُدُّ أَعْمَالَهُمْ لِنُجَازِيَهُمْ عَلَيْهَا، وَالظَّاهِرُ هُوَ مَا قَدَّمْنَا، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.

.تفسير الآيات (85-86):

{يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْدًا (85) وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْدًا (86)}:
قَوْلُهُ تَعَالَى: {يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْدًا وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْدًا}.
ذَكَرَ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: أَنَّ الْمُتَّقِينَ الَّذِينَ كَانُوا يَتَّقُونَهُ فِي دَارِ الدُّنْيَا بِامْتِثَالِ أَمْرِهِ وَاجْتِنَابِ نَهْيِهِ يُحْشَرُونَ إِلَيْهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِي حَالِ كَوْنِهِمْ وَفْدًا، وَالْوَفْدُ عَلَى التَّحْقِيقِ: جَمْعُ وَافِدٍ كَصَاحِبٍ وَصَحْبٍ، وَرَاكِبٍ وَرَكْبٍ، وَقَدَّمْنَا فِي سُورَةِ النَّحْلِ أَنَّ التَّحْقِيقَ أَنَّ الْفِعْلَ بِفَتْحٍ فَسُكُونٍ مِنْ صِيَغِ جُمُوعِ الْكَثْرَةِ لِلْفَاعِلِ وَصْفًا، وَبَيَّنَّا شَوَاهِدَ ذَلِكَ مِنَ الْعَرَبِيَّةِ، وَإِنْ أَغْفَلَهُ الصَّرْفِيُّونَ، وَالْوَافِدُ: مَنْ يَأْتِي إِلَى الْمَلِكِ مَثَلًا إِلَى أَمْرٍ لَهُ شَأْنٌ، وَجُمْهُورُ الْمُفَسِّرِينَ عَلَى أَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ: {وَفْدًا} [19/ 85]، أَيْ: رُكْبَانًا، وَبَعْضُ الْعُلَمَاءِ يَقُولُ: هُمْ رُكْبَانٌ عَلَى نَجَائِبَ مِنْ نُورٍ مِنْ مَرَاكِبِ الدَّارِ الْآخِرَةِ، وَبَعْضُهُمْ يَقُولُ:
يُحْشَرُونَ رُكْبَانًا عَلَى صُوَرٍ مِنْ أَعْمَالِهِمُ الصَّالِحَةِ فِي الدُّنْيَا فِي غَايَةِ الْحُسْنِ وَطِيبِ الرَّائِحَةِ.
قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبُو سَعِيدٍ الْأَشَجُّ، حَدَّثَنَا ابْنُ خَالِدٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ قَيْسٍ الْمُلَائِيِّ عَنِ ابْنِ مَرْزُوقٍ يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْدًا، قَالَ: يَسْتَقْبِلُ الْمُؤْمِنَ عِنْدَ خُرُوجِهِ مِنْ قَبْرِهِ أَحْسَنُ صُورَةٍ رَآهَا وَأَطْيَبُهَا رِيحًا، فَيَقُولُ: مَنْ أَنْتَ؟ فَيَقُولُ: أَمَا تَعْرِفُنِي؟ فَيَقُولُ: لَا إِلَّا أَنَّ اللَّهَ قَدْ طَيَّبَ رِيحَكَ، وَحَسَّنَ وَجْهَكَ، فَيَقُولُ: أَنَا عَمَلُكَ الصَّالِحُ، وَهَكَذَا كُنْتَ فِي الدُّنْيَا حَسَنَ الْعَمَلِ طَيِّبَهُ، فَطَالَمَا رَكِبْتُكَ فِي الدُّنْيَا فَهَلُمَّ ارْكَبْنِي، فَذَلِكَ قَوْلُهُ: يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْدًا، وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: {يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْدًا} قَالَ: رُكْبَانًا، وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنِي ابْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنِي ابْنُ مَهْدِيٍّ عَنْ سَعِيدٍ عَنْ إِسْمَاعِيلَ عَنْ رَجُلٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْدًا، قَالَ: عَلَى الْإِبِلِ، وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: عَلَى النَّجَائِبِ، وَقَالَ الثَّوْرِيُّ: عَلَى الْإِبِلِ النُّوقِ، وَقَالَ قَتَادَةُ يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْدًا قَالَ: إِلَى الْجَنَّةِ، وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ ابْنُ الْإِمَامِ أَحْمَدَ فِي مُسْنَدِ أَبِيهِ: حَدَّثَنَا سُوَيْدُ بْنُ سَعِيدٍ، أَخْبَرَنَا عَلِيُّ بْنُ مُسْهِرٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ إِسْحَاقَ، حَدَّثَنَا النُّعْمَانُ بْنُ سَعْدٍ قَالَ: كُنَّا جُلُوسًا عِنْدَ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَقَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ: {يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْدًا} قَالَ: وَاللَّهِ مَا عَلَى أَرْجُلِهِمْ يُحْشُرُونَ، وَلَا يُحْشَرُ الْوَفْدُ عَلَى أَرْجُلِهِمْ، وَلَكِنْ بِنُوقٍ لَمْ يَرَ الْخَلَائِقُ مِثْلَهَا، عَلَيْهَا رَحَائِلُ مِنْ ذَهَبٍ فَيَرْكَبُونَ عَلَيْهَا حَتَّى يَضْرِبُوا أَبْوَابَ الْجَنَّةِ!! وَهَكَذَا رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ جَرِيرٍ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ إِسْحَاقَ الْمَدَنِيِّ بِهِ، وَزَادَ عَلَيْهَا رَحَائِلُ مِنْ ذَهَبٍ، وَأَزِمَّتُهَا الزَّبَرْجَدُ. وَالْبَاقِي مِثْلُهُ، وَرَوَى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ هُنَا حَدِيثًا غَرِيبًا جِدًّا مَرْفُوعًا عَنْ عَلِيٍّ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا أَبُو غَسَّانَ مَالِكُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ النَّهْدِيُّ، حَدَّثَنَا سَلَمَةُ بْنُ جَعْفَرٍ الْبَجَلِيُّ، سَمِعْتُ أَبَا مُعَاذٍ الْبَصْرِيَّ يَقُولُ: إِنَّ عَلِيًّا كَانَ ذَاتَ يَوْمٍ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ: يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْدًا، فَقَالَ: مَا أَظُنُّ الْوَفْدَ إِلَّا الرَّكْبَ يَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، إِنَّهُمْ إِذَا خَرَجُوا مِنْ قُبُورِهِمْ يُسْتَقْبَلُونَ- أَوْ: يُؤْتَوْنَ- بِنُوقٍ بِيضٍ لَهَا أَجْنِحَةٌ وَعَلَيْهَا رَحَائِلُ الذَّهَبِ، شِراكُ نِعَالِهِمْ نُورٌ يَتَلَأْلَأُ، كُلُّ خُطْوَةٍ مِنْهَا مَدُّ الْبَصَرِ، فَيَنْتَهُونَ إِلَى شَجَرَةٍ يَنْبُعُ مِنْ أَصْلِهَا عَيْنَانِ فَيَشْرَبُونَ مِنْ إِحْدَاهُمَا فَتَغْسِلُ مَا فِي بُطُونِهِمْ مِنْ دَنَسٍ، وَيَغْتَسِلُونَ مِنَ الْأُخْرَى فَلَا تَشْعَثُ أَبْشَارُهُمْ وَلَا أَشْعَارُهُمْ بَعْدَهَا أَبَدًا، وَتَجْرِي عَلَيْهِمْ نَضْرَةُ النَّعِيمِ فَيَنْتَهُونَ- أَوْ: فَيَأْتُونَ- بَابَ الْجَنَّةِ فَإِذَا حَلْقَةٌ مِنْ يَاقُوتٍ حَمْرَاءَ عَلَى صَفَائِحِ الذَّهَبِ، فَيَضْرِبُونَ بِالْحَلْقَةِ عَلَى الصَّفْحَةِ فَيُسْمَعُ لَهَا طَنِينٌ يَا عَلِيُّ، فَيَبْلُغُ كُلَّ حَوْرَاءَ أَنَّ زَوْجَهَا قَدْ أَقْبَلَ فَتَبْعَثُ قَيِّمَهَا لِيَفْتَحَ لَهُ فَإِذَا رَآهُ خَرَّ لَهُ قَالَ سَلَمَةُ: أَرَاهُ قَالَ سَاجِدًا فَيَقُولُ: ارْفَعْ رَأْسَكَ فَإِنَّمَا أَنَا قَيِّمُكَ وُكِّلْتُ بِأَمْرِكَ، فَيَتْبَعُهُ وَيَقْفُو أَثَرَهُ فَتَسْتَخِفُّ الْحَوْرَاءَ الْعَجَلَةُ فَتَخْرُجُ مِنْ خِيَامِ الدُّرِّ وَالْيَاقُوتِ حَتَّى تَعْتَنِقَهُ» إِلَى آخِرِ الْحَدِيثِ بِطُولِهِ، وَفِي آخِرِ السِّيَاقِ: هَكَذَا وَقَعَ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ مَرْفُوعًا، وَقَدْ رُوِّينَاهُ فِي الْمُقَدِّمَاتِ مِنْ كَلَامِ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَهُوَ أَشْبَهُ بِالصِّحَّةِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. اهـ.
وَرُكُوبُهُمُ الْمَذْكُورُ إِنَّمَا يَكُونُ مِنَ الْمَحْشَرِ إِلَى الْجَنَّةِ، أَمَّا مِنَ الْقَبْرِ فَالظَّاهِرُ أَنَّهُمْ يُحْشَرُونَ مُشَاةً، بِدَلِيلِ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ الدَّالِّ عَلَى أَنَّهُمْ يُحْشَرُونَ حُفَاةً عُرَاةً غُرْلًا، هَذَا هُوَ الظَّاهِرُ وَجَزَمَ بِهِ الْقُرْطُبِيُّ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
وَقَوْلُهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: {وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْدًا} [19/ 86]، السَّوْقُ مَعْرُوفٌ، وَالْمُجْرِمُونَ: جَمْعُ تَصْحِيحٍ لِلْمُجْرِمِ، وَهُوَ اسْمُ فَاعِلِ الْإِجْرَامِ، وَالْإِجْرَامُ: ارْتِكَابُ الْجَرِيمَةِ، وَهِيَ الذَّنْبُ الَّذِي يَسْتَحِقُّ صَاحِبُهُ بِهِ النَّكَالَ وَالْعَذَابَ، وَلَمْ يَأْتِ الْإِجْرَامُ فِي الْقُرْآنِ إِلَّا مِنْ أَجْرَمَ الرُّبَاعِيِّ عَلَى وَزْنِ أَفْعَلَ، وَيَجُوزُ إِتْيَانُهُ فِي اللُّغَةِ بِصِيغَةِ الثُّلَاثِيِّ فَتَقُولُ: جَرَمَ يَجْرِمُ كَضَرَبَ يَضْرِبُ، وَالْفَاعِلُ مِنْهُ جَارِمٌ، وَالْمَفْعُولُ مَجْرُومٌ، كَمَا هُوَ ظَاهِرٌ، وَمِنْهُ قَوْلُ عَمْرِو بْنِ الْبَرَّاقَةِ النَّهْمِيِّ:
وَنَنْصُرُ مَوْلَانَا وَنَعْلَمُ أَنَّهُ كَمَا النَّاسِ مَجْرُومٌ عَلَيْهِ وَجَارِمُ وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ وِرْدًا، أَيْ: عِطَاشًا، وَأَصْلُ الْوِرْدِ: الْإِتْيَانُ إِلَى الْمَاءِ، وَلَمَّا كَانَ الْإِتْيَانُ إِلَى الْمَاءِ لَا يَكُونُ إِلَّا مِنَ الْعَطَشِ أُطْلِقَ هُنَا اسْمُ الْوِرْدِ عَلَى الْجَمَاعَةِ الْعِطَاشِ، أَعَاذَنَا اللَّهُ وَالْمُسْلِمِينَ مِنَ الْعَطَشِ فِي الْآخِرَةِ وَالدُّنْيَا، وَمِنْ إِطْلَاقِ الْوِرْدِ عَلَى الْمَسِيرِ إِلَى الْمَاءِ قَوْلُ الرَّاجِزِ يُخَاطِبُ نَاقَتَهُ:
رِدِي رِدِي وِرْدَ قَطَاةٍ صَمَّا ** كُدْرِيَّةٍ أَعْجَبَهَا بَرْدُ الْمَا

وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي الْعَامِلِ النَّاصِبِ لِقَوْلِهِ: يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ، فَقِيلَ مَنْصُوبٌ بِيَمْلِكُونَ بَعْدَهُ، أَيْ: لَا يَمْلِكُونَ الشَّفَاعَةَ يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ، وَاخْتَارَهُ أَبُو حَيَّانَ فِي الْبَحْرِ، وَقِيلَ: مَنْصُوبٌ بِاذْكُرْ أَوِ احْذَرْ، مُقَدَّرًا، وَفِيهِ أَقْوَالٌ غَيْرُ ذَلِكَ.
وَهَذَا الَّذِي تَضَمَّنَتْهُ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ جَاءَ مُبَيَّنًا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ الزُّمَرِ:
{وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ} [39/ 71- 73].

.تفسير الآية رقم (87):

{لَا يَمْلِكُونَ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا (87)}:
قَوْلُهُ تَعَالَى: {لَا يَمْلِكُونَ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا} [19/ 87].
قَدْ قَدَّمْنَا فِي تَرْجَمَةِ هَذَا الْكِتَابِ الْمُبَارَكِ: أَنَّ مِنْ أَنْوَاعِ الْبَيَانِ الَّتِي تَضَمَّنَهَا أَنْ يَكُونَ فِي الْآيَةِ وَجْهَانِ أَوْ أَوْجُهٌ مِنَ التَّفْسِيرِ كُلُّهَا حَقٌّ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهَا يَشْهَدُ لَهُ قُرْآنٌ، فَإِنَّا نَذْكُرُ الْجَمِيعَ وَأَدِلَّتَهُ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى؛ لِأَنَّهُ كُلَّهُ حَقٌّ، فَإِذَا عَلِمْتَ ذَلِكَ فَاعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ الْكَرِيمَةَ مِنْ ذَلِكَ النَّوْعِ، قَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: الْوَاوُ فِي قَوْلِهِ: لَا يَمْلِكُونَ رَاجِعَةٌ إِلَى الْمُجْرِمِينَ الْمَذْكُورِينَ فِي قَوْلِهِ: وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ أَيْ: لَا يَمْلِكُ الْمُجْرِمُونَ الشَّفَاعَةَ، أَيْ: لَا يَسْتَحِقُّونَ أَنْ يَشْفَعَ فِيهِمْ شَافِعٌ يُخَلِّصُهُمْ مِمَّا هُمْ فِيهِ مِنَ الْهَوْلِ وَالْعَذَابِ.
وَهَذَا الْوَجْهُ مِنَ التَّفْسِيرِ تَشْهَدُ لَهُ آيَاتٌ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ} [74/ 48]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ وَلَا صَدِيقٍ حَمِيمٍ} [26/ 100- 101] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلَا شَفِيعٍ يُطَاعُ} الْآيَةَ [40/ 18] وَقَوْلِهِ: {وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى} [21/ 28] مَعَ قَوْلِهِ: {وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ} [39/ 7] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ.
وَهَذَا الْوَجْهُ يُفْهَمُ مِنْهُ بِالْأَحْرَى أَنَّ الْمُجْرِمِينَ لَا يَشْفَعُونَ فِي غَيْرِهِمْ؛ لِأَنَّهُمْ إِذَا كَانُوا لَا يَسْتَحِقُّونَ أَنْ يَشْفَعَ فِيهِمْ غَيْرُهُمْ لِكُفْرِهِمْ فَشَفَاعَتُهُمْ فِي غَيْرِهِمْ مَمْنُوعَةٌ مِنْ بَابِ أَوْلَى، وَعَلَى كَوْنِ الْوَاوِ فِي لَا يَمْلِكُونَ رَاجِعَةً إِلَى الْمُجْرِمِينَ فَالِاسْتِثْنَاءُ مُنْقَطِعٌ وَمَنِ فِي مَحِلِّ نَصْبٍ، وَالْمَعْنَى: لَكِنْ مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا يَمْلِكُونَ الشَّفَاعَةَ، أَيْ: بِتَمْلِيكِ اللَّهِ إِيَّاهُمْ وَإِذْنِهِ لَهُمْ فَيَمْلِكُونَ الشَّفَاعَةَ بِمَا ذَكَرْنَا وَيَسْتَحِقُّهَا بِهِ الْمَشْفُوعُ لَهُمْ، قَالَ تَعَالَى: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} [2/ 255] وَقَالَ: {وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى} [21/ 28] وَقَالَ: {وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى} [53/ 26].
وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: الْوَاوُ فِي قَوْلِهِ: لَا يَمْلِكُونَ الشَّفَاعَةَ رَاجِعَةٌ إِلَى: {الْمُتَّقِينَ}، وَ{الْمُجْرِمِينَ} جَمِيعًا الْمَذْكُورِينَ فِي قَوْلِهِ: يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْدًا وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْدًا، وَعَلَيْهِ فَالِاسْتِثْنَاءُ فِي قَوْلِهِ: {إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا} [19/ 87] مُتَّصِلٌ، وَمَنِ بَدَلٌ مِنَ الْوَاوِ فِي لَا يَمْلِكُونَ، أَيْ: لَا يَمْلِكُ مِنْ جَمِيعِهِمْ أَحَدٌ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا وَهُمُ الْمُؤْمِنُونَ، وَالْعَهْدُ: الْعَمَلُ الصَّالِحُ وَالْقَوْلُ بِأَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَغَيْرُهُ مِنَ الْأَقْوَالِ يَدْخُلُ فِي ذَلِكَ، أَيْ: إِلَّا الْمُؤْمِنُونَ فَإِنَّهُمْ يَشْفَعُ بَعْضُهُمْ فِي بَعْضٍ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {يَوْمَئِذٍ لَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا} [20/ 109]، وَقَدْ بَيَّنَ تَعَالَى فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ: أَنَّ الْمَعْبُودَاتِ الَّتِي يَعْبُدُونَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا تَمْلِكُ الشَّفَاعَةَ، وَأَنَّ مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ يَمْلِكُهَا بِإِذْنِ اللَّهِ لَهُ فِي ذَلِكَ، وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلَا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ} الْآيَةَ [43/ 86]، أَيْ: لَكِنْ مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ يَشْفَعُ بِإِذْنِ اللَّهِ لَهُ فِي ذَلِكَ، وَقَالَ تَعَالَى: {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ مِنْ شُرَكَائِهِمْ شُفَعَاءُ} الْآيَةَ [30/ 12- 13] وَقَالَ تَعَالَى: {وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لَا يَعْلَمُ} الْآيَةَ [10/ 18]، وَالْأَحَادِيثُ فِي الشَّفَاعَةِ وَأَنْوَاعِهَا كَثِيرَةٌ مَعْرُوفَةٌ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.
وَفِي إِعْرَابِ جُمْلَةِ لَا يَمْلِكُونَ وَجْهَانِ، الْأَوَّلُ: أَنَّهَا حَالِيَّةٌ، أَيْ: نَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ فِي حَالِ كَوْنِهِمْ لَا يَمْلِكُونَ الشَّفَاعَةَ، أَوْ: نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ فِي حَالِ كَوْنِهِمْ لَا يَمْلِكُونَ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ مِنْهُمْ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا، وَالثَّانِي أَنَّهَا مُسْتَأْنَفَةٌ لِلْإِخْبَارِ، حَكَاهُ أَبُو حَيَّانَ فِي الْبَحْرِ، وَمِنْ أَقْوَالِ الْعُلَمَاءِ فِي الْعَهْدِ الْمَذْكُورِ فِي الْآيَةِ: أَنَّهُ الْمُحَافَظَةُ عَلَى الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ، وَاسْتَدَلَّ مَنْ قَالَ ذَلِكَ بِحَدِيثِ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ الَّذِي قَدَّمْنَاهُ عِنْدَ الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ} الْآيَةَ [19/ 59].
وَقَالَ بَعْضُهُمْ: الْعَهْدُ الْمَذْكُورُ: هُوَ أَنْ يَقُولَ الْعَبْدُ كُلَّ صَبَاحٍ وَمَسَاءٍ: اللَّهُمَّ فَاطِرَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ، إِنِّي أَعْهَدُ إِلَيْكَ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ بِأَنِّي أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ وَحْدَكَ لَا شَرِيكَ لَكَ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُكَ وَرَسُولُكَ، فَلَا تَكِلْنِي إِلَى نَفْسِي، فَإِنَّكَ إِنْ تَكِلْنِي إِلَى نَفْسِي تُبَاعِدْنِي مِنَ الْخَيْرِ وَتُقَرِّبْنِي مِنَ الشَّرِّ، وَإِنِّي لَا أَثِقُ إِلَّا بِرَحْمَتِكَ،
فَاجْعَلْ لِي عِنْدَكَ عَهْدًا تُوَفِّينِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، إِنَّكَ لَا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ، فَإِذَا قَالَ ذَلِكَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا طَابَعًا وَوَضَعَهَا تَحْتَ الْعَرْشِ، فَإِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ نَادَى مُنَادٍ: أَيْنَ الَّذِينَ لَهُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدٌ؟ فَيَقُومُ فَيَدْخُلُ الْجَنَّةَ. انْتَهَى، ذَكَرَهُ الْقُرْطُبِيُّ بِهَذَا اللَّفْظِ مَرْفُوعًا عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَذَكَرَ صَاحِبُ الدُّرِّ الْمَنْثُورِ أَنَّهُ أَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالطَّبَرَانِيُّ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ مَوْقُوفًا عَلَيْهِ، وَلَيْسَ فِيهِ قَوْلُهُ: فَإِذَا قَالَ ذَلِكَ، إِلَخْ، وَذَكَرَ صَاحِبُ الدُّرِّ الْمَنْثُورِ أَيْضًا: أَنَّ الْحَكِيمَ التِّرْمِذِيَّ أَخْرَجَ نَحْوَهُ مَرْفُوعًا عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمَرْفُوعَ لَا يَصِحُّ، وَالَّذِي يَظْهَرُ لِي أَنَّ الْعَهْدَ فِي الْآيَةِ يَشْمَلُ الْإِيمَانَ بِاللَّهِ وَامْتِثَالَ أَمْرِهِ وَاجْتِنَابَ نَهْيِهِ، خِلَافًا لِمَنْ زَعَمَ أَنَّ الْعَهْدَ فِي الْآيَةِ كَقَوْلِ الْعَرَبِ: عَهِدَ الْأَمِيرُ إِلَى فُلَانٍ بِكَذَا، أَيْ: أَمَرَهُ بِهِ، أَيْ: لَا يَشْفَعُ إِلَّا مَنْ أَمَرَهُ اللَّهُ بِالشَّفَاعَةِ، فَهَذَا الْقَوْلُ لَيْسَ صَحِيحًا فِي الْمُرَادِ بِالْآيَةِ وَإِنْ كَانَ صَحِيحًا فِي نَفْسِهِ، وَقَدْ دَلَّتْ عَلَى صِحَّتِهِ آيَاتٌ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} [2/ 255]، وَقَوْلِهِ: {وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى} [53/ 26]، وَقَوْلِهِ: {وَلَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} [34/ 23]، وَقَوْلِهِ: {يَوْمَئِذٍ لَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ} الْآيَةَ [20/ 109]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَقَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا الْآيَاتِ} [2/ 116]، وَقَدْ تَكَلَّمْنَا عَلَيْهَا وَعَلَى الْآيَاتِ الَّتِي بِمَعْنَاهَا فِي الْقُرْآنِ فِي مَوَاضِعَ مُتَعَدِّدَةٍ، فَأَغْنَى ذَلِكَ عَنْ إِعَادَتِهِ هُنَا.

.تفسير الآية رقم (96):

{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا (96)}:
قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا} الْآيَةَ.
قَدْ قَدَّمْنَا فِي تَرْجَمَةِ هَذَا الْكِتَابِ الْمُبَارَكِ: أَنَّ مِنْ أَنْوَاعِ الْبَيَانِ الَّتِي تَضَمَّنَهَا أَنْ يُذْكَرَ فِي الْقُرْآنِ لَفْظٌ عَامٌّ ثُمَّ يُصَرَّحُ فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ بِدُخُولِ بَعْضِ أَفْرَادِ ذَلِكَ الْعَامِّ فِيهِ، وَقَدْ قَدَّمْنَا أَمْثِلَةً مُتَعَدِّدَةً لِذَلِكَ، فَإِذَا عَلِمْتَ ذَلِكَ فَاعْلَمْ أَنَّهُ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ ذَكَرَ أَنَّهُ سَيَجْعَلُ لِعِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ وُدًّا، أَيْ مَحَبَّةً فِي قُلُوبِ عِبَادِهِ، وَقَدْ صَرَّحَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ بِدُخُولِ نَبِيِّهِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ وَعَلَى نَبِيِّنَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي هَذَا الْعُمُومِ، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: {وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي} الْآيَةَ [20/ 39]، وَفِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «إِنَّ اللَّهَ إِذَا أَحَبَّ عَبْدًا دَعَا جِبْرِيلَ فَقَالَ يَا جِبْرِيلُ إِنِّي أُحِبُّ فُلَانًا فَأَحِبَّهُ، قَالَ: فَيُحِبُّهُ جِبْرِيلُ، ثُمَّ يُنَادِي فِي أَهْلِ السَّمَاءِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ فُلَانًا فَأَحِبُّوهُ، قَالَ: فَيُحِبُّهُ أَهْلُ السَّمَاءِ، ثُمَّ يُوضَعُ لَهُ الْقَبُولُ فِي الْأَرْضِ، وَإِنَّ اللَّهَ إِذَا أَبْغَضَ عَبْدًا دَعَا جِبْرِيلَ، فَقَالَ يَا جِبْرِيلُ إِنِّي أُبْغِضُ فُلَانًا فَأَبْغِضْهُ، قَالَ: فَيُبْغِضُهُ جِبْرِيلُ، ثُمَّ يُنَادِي فِي أَهْلِ السَّمَاءِ إِنَّ اللَّهَ يُبْغِضُ فُلَانًا فَأَبْغِضُوهُ، قَالَ: فَيُبَغضُهُ أَهْلُ السَّمَاءِ، ثُمَّ يُوضَعُ لَهُ الْبَغْضَاءُ فِي الْأَرْضِ» اهـ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْمًا لُدًّا}.
ذَكَرَ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: أَنَّهُ إِنَّمَا يَسَّرَ هَذَا الْقُرْآنَ بِلِسَانِ هَذَا النَّبِيِّ الْعَرَبِيِّ الْكَرِيمِ، لِيُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ، وَيُنْذِرَ بِهِ الْخُصُومَ الْأَلِدَّاءَ، وَهُمُ الْكَفَرَةُ، وَمَا تَضَمَّنَتْهُ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ جَاءَ مُوَضَّحًا فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ، أَمَّا مَا ذَكَرَ فِيهَا مِنْ تَيْسِيرِ هَذَا الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ فَقَدْ أَوْضَحَهُ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ، كَقَوْلِهِ فِي سُورَةِ الْقَمَرِ مُكَرِّرًا لِذَلِكَ: {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ} [54/ 32]، وَقَوْلِهِ فِي آخِرِ الدُّخَانِ: {فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} [44/ 58]، وَأَمَّا مَا ذَكَرَ فِيهَا مِنْ كَوْنِهِ بِلِسَانِ هَذَا النَّبِيِّ الْعَرَبِيِّ الْكَرِيمِ فَقَدْ ذَكَرَهُ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ، كَقَوْلِهِ: {وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ} [26/ 192- 195]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} [12/ 1- 2]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {حم وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} [43/ 1]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ} [16/ 103]، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ.
وَقَوْلُهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ الْآيَةَ، قَدْ أَوْضَحْنَا الْآيَاتِ الدَّالَّةَ عَلَيْهِ فِي سُورَةِ الْكَهْفِ وَغَيْرِهَا فَأَغْنَى ذَلِكَ عَنْ إِعَادَتِهِ هُنَا، وَأَظْهَرُ الْأَقْوَالِ فِي قَوْلِهِ: لُدًّا أَنَّهُ جَمْعُ الْأَلَدِّ، وَهُوَ شَدِيدُ الْخُصُومَةِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ} [2/ 204]، وَقَوْلُ الشَّاعِرِ:
أَبِيتُ نَجِيًّا لِلْهُمُومِ كَأَنَّنِي ** أُخَاصِمُ أَقْوَامًا ذَوِي جَدَلٍ لُدَّا